المادة    
  1. إبليس أعرف بربه من الجهمية

    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإبليس -مع كفره- كَانَ أعرف بربه من الجهمية]، يعني: هو يعرف أن لربه يدين، والجهمية لا يقولون بذلك إذاً هو أعرف بربه منهم.
    والمقصود بـالجهمية هنا: من ينفون هذه الصفات فليس الأمر خاصاً بـالجهمية الذين هم أصحاب جهم.
  2. حقيقة الجهمية في هذا الموضوع بالذات

    الجهمية تطلق عَلَى جميع نفاة الصفات؛ لأن أصل نفي الصفات إنما هو من جهم، وقد سمى شَيْخ الإِسْلامِ رده عَلَى الرازي بـ"بيان تلبيس الجهمية".
    مع أن الرازي يقول: نَحْنُ لا ننتسب إِلَى جهم إنما نَحْنُ أشعرية ولسنا جهمية، لكنهم في الحقيقة جهمية لأنهم ينفون الصفات، والتجهم درجات كما سبق.
    وتلخيص ذلك: أن نفاة صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذين يطلق عليهم الجهمية في كلام السلف الصالح، فممن كتب من المؤلفين من السلف في الرد عَلَى الجهمية كالإمام البُخَارِيّ في صحيحه، كتب كتاب التوحيد والرد عَلَى الجهمية والإمام أبو داود ذكر في سننه كتاب الرد عَلَى الجهمية، والإمام أَحْمَد شيخ البُخَارِيّ وأبو داود له كتاب الرد عَلَى الجهمية، والإمام عثمان بن سعيد الدارمي له كتاب الرد عَلَى الجهمية وغيرهم كثير.
    المهم أنهم درجات المقصود أنه يطلق عَلَى نفاة الصفات جهمية لكنهم درجات.
  3. درجات الجهمية

    الدرجـة الأولى: الذين ينفون جميع الأسماء وجميع الصفات، وهم الباطنية وغلاة الجهمية، وهَؤُلاءِ فرق كثيرة يقولون: لا نثبت له لا اسماً ولا صفة، حتى أنهم قالوا: لا نقول موجود ولا غير موجود، فالباطنية يقولون: ننفي الصفة وننفي ضدها، فالنفي عندهم شامل للسلب والإيجاب معاً، لا نقول موجود ولا غير موجود، فلا يوصف الله بشيء، وهذا أعلى درجات الكفر، وهم بلا شك خارجون من الملة.
    الدرجـة الثانية: المعتزلة: وهَؤُلاءِ يثبتون الأسماء وينفون جميع الصفات، يقولون -مثلاً-: عزيز بلا عزة، حكيم بلا حكمة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم.
    الدرجـة الثالثة: الذين يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات وينكرون بعضها، وهَؤُلاءِ هم الأشاعرة وهم مضطربون فـالباقلاني -مثلاً- وهو من أقدم أئمتهم يثبت بعض الصفات كالوجه واليد والعين، لكن أتى من بعده الجويني إمام الحرمين فنفى ذلك.
    ثُمَّ استمر من بعده يتدرجون في النفي والتجهم، إِلَى أن جَاءَ الرازي، الذي يكاد أن يكون معتزلياً، ثُمَّ بعد ذلك يأتي الإيجي صاحب المواقف فيصبح المذهب مذهباً فلسفياً وكذا الآمدي والأرموي وأمثالهم، فهم يتدرجون ويتفاوتون.
    المقصود: أنهم كمجموعة يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات وينكرون البعض الآخر أو يؤولونه، ومما يثبتونه من الصفات سبع وبعضهم يجعلها أحد عشرة وبعضهم ثلاثة عشر، وبعضهم عشرين، مع التفريعات والتشققات، والباقي يؤولونه.

    والاستواء والوجه وأمثالهما مما يطلقون عليه أنه جوارح وأعضاء وأركان هذا من أعظم ما تنفيه الأشعرية وبالتالي ينفيه المعتزلة بطبيعة الحال؛ لأنهم ينفون جميع الصفات، وبطبيعة الحال تنفيه الجهمية لأنهم ينفون الكل وكذلك الباطنية، فكل النفاة وكل المؤولين يشتركون جميعاً في نفي الصفات.
    قال المصنف: [فإبليس -مع كفره- كَانَ أعرف بربه من الجهمية]، هذا القول إذاً ينطبق عَلَى جميع هَؤُلاءِ، وإن كَانَ إبليس قد كفر به ولكن كفره من كفر الكبر والإباء ((إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) [البقرة:34].
  4. الكفرة ملة واحدة وأسبابه تختلف

    فالكفر أنواع: كفر يتعلق بالطاعة، وكفر يتعلق بالمعرفة، وهَؤُلاءِ الجهمية وغيرهم من نفاة الصفات كَفَرُوا بمايتعلق بالمعرفة، " أي: معرفة الله " لأنهم جحدوا أسماء الله وجحدوا صفاته، والكفر يختلف في سببه ودافعه فإبليس أبى واستكبر أن يقر بالأمر في ذاته ونفاه ونفى حكمته.
    واليهود كفرهم من باب الحسد وهو قريب من كفر إبليس، لأن إبليس حسد آدم عَلَى المنزلة من حيث الدافع، لكن اليهود لا ينكرون النبوة في ذاتها بل يقرون بالنبوة والأنبياء، لكنهم كانوا يريدون أن يكون النبي من بني إسرائيل، فكفروا بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال أبو جهل: من بني هاشم إذاً كفرنا، فليست القضية قضية حق أو باطل، بل ما دام أنه من بني هاشم إذاً كفرنا، لأننا كنا وإياهم كفرسي رهان، ولأنهم قالوا: منا نبي ولا نستطيع أن نأتي بنبي وهكذا.
    إذاً فأبواب الكفر مختلفة،
    والمقصود هنا: أن إبليس في باب المعرفة أعرف بربه من نفاة الصفات.
  5. شبهة في إثبات صفة اليد وردها

    يأتي هنا إشكال قال المصنف: [ولا دليل لنفاه الصفات فيه، وهو في قوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ)) [يـس:71]].
    فيقولون: ليس لله يد عَلَى الحقيقة، ولا يتصف الله باليد كما تقولون؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر في هذه الآية أنه خلق الأنعام فقال:((مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا)) [يـس:71] فَجَمَعَ اليد، وأنتم تقولون: إن لله يدين، وتقولون: إن المصدر لا يُثَنّى ولا يجمع.
    المقصود هنا هو قوله: ((أَيْدِينَا)) فَقَالُوا: أنتم تقولون: إن لله يداً وتقولون: إن لله يدين وتقولون: إن لله أيدي، وهذا ما وردت به النصوص، فكيف تقولون: إن الله يدين كما ذكر، فنحن نقول لهم: ما ذكره الله في الآية: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ))[صّ:75] فنحن نقول لهم: هذا فيه إثبات أن لله تَعَالَى يدين، كما يقول في الآية الأخرى رداً عَلَى اليهود في قولهم: ((يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة)) [المائدة:64] فلما كَانَ المقام مقام رد عليهم من جهة إثبات الصفة لله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)) [المائدة:64] فعلمنا بذلك قطعاً وصراحة أن لله تَعَالَى يدين، وأن الصفة بلفظ اليدين، ولم يَقُل أيديه مبسوطة.
    وكما جَاءَ في الأحاديث الصحيحة {وكلتا يديه يمين} أي: هما يدان، ويأتي في لغة العرب إطلاق المفرد وهو في الحقيقة مثنى وهذا معروف، ولأن جميع النَّاس لكل واحد منهم يدان من حيث العدد، فإذا قال رجل: أخذت بيدي أو عملت بيدي؛ فإنه لا يعني بذلك أنه ليس له إلا يد واحدة، وهذا واضح جداً، ولله المثل الأعلى.

    وإذا استخدم الجمع فما معناه وكيف نفهمه؟
    نقول: بما أن القُرْآن جَاءَ بأرقى وأفصح الأساليب العربية بلا شك، ولا ينازع في ذلك أحد من هَؤُلاءِ المناظرين، فالإضافة لمَّا جاءت إِلَى ضمير الجمع جُمع المضاف، لأن أول الآية ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا)) [يّـس:71] بلفظ الجمع.((لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا))[يّـس:71] لأن المضاف إليه ضمير الجمع "نا" فيجمع إذاً المضاف لمناسبة المضاف إليه، فليس في ذلك نفي لكون اليدين اثنتين وهذا باب معروف في اللغة العربية، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)) [التحريم:4] وهذا لا يناقشون فيه من جهة اللغة.
    والمصنف هنا قَالَ: [لأنه تَعَالَى جمع الأيدي لما أضافها إِلَى ضمير الجمع ليتناسب الجمعان، فاللفظان للدلالة عَلَى الملك والعظمة -كلاهما- ولم يقل "أيديَّ"] لأنه إذا أراد أن يجمع المضاف والمضاف إليه مفرد، كما لو كَانَ التعبير هكذا لقَالَ: "أيدي" فهذا المضاف جمع والمضاف إليه مفرد "أيديَّ" فليس هذا هو المراد بذلك، وإلا لو قال "أيدي" لفهمنا أنها أيدي، فلم يقل "أيديَّ" مضافاً إِلَى ضمير المفرد، ولم يقل ((يدينا)) بتثنية اليد مضافة إِلَى ضمير الجمع [فلم يكن قوله: ((مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا))[يّـس:71] نظير قوله تعالى: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ))[صّ:75]].
    أي: ليست آية ((مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا)) [يّـس:71] مما ينفي دلالة ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ)) [صّ:75] أو ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)) [المائدة:64] وأمثال ذلك مما ورد في إثبات اليدين، لأنها وردت بهذا اللفظ في المقام الذي لا يحتمل التأويل في الآيات، وكذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما.